كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} عطف على جملة: {خُلِقَ} مع ضميره المستتر أو حال من الضمير بتقدير قد على ما هو المشهور في الجملة الحالية الماضوية من اشتراط قد ظاهرة أو مقدرة؛ والمضي المستفاد من كان بالنسبة للحكم لا للتكلم أي كان عرشه على الماء قبل خلقهما وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد، وبه صرح القاضي البيضاوي، ثم قال: لم يكن حائل بينهما أي العرش والماء لا أنه كان موضوعًا على متن الماء، واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم انتهى، وكذا صرح به العلامة أبو السعود مفتي الديار الرومية لكنه قال: ليس تحته يعني العرش شيء غيره أي الماء سواء كان بينهما فرجة، أو موضوعًا على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السموات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما انتهى، ولا يخفى ما بين القاضي والمفتي من المخالفة، والأكثرون على أن الحق مع المفتي كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.
وانتصر بعضهم للقاضي بأنه لو كان موضوعًا على متن الماء للزم قبل خلق تمام العالم أحد الأمور الستة: إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي.
أو خروج العرش عن حيزه الطبيعي.
أو تخلخل الماء.
أو نموه أو تخلخل العرش.
أو نموه، وحين خلق العالم أحد الأمور الخمسة: إما حركة العرش بالاستقامة إلى حيزه الطبيعي.
أو تكاثف الماء.
أو ذبوله.
أو تكاثف العرش.
أو ذبوله، وهذه الأمور باطلة كما لا يخفى على من تدرب في الحكمة، ويحمل الإمكان في كلامه على الإمكان الوقوعي، أو يراد به الإمكان الذاتي وبالخلاء الخلاء في عالمنا هذا فإنه المتنازع فيه فكأنه قيل واستدل به على أن الخلاء في عالمنا ممكن بالإمكان الذاتي وتوجيه الاستدلال به حينئذٍ على ذلك هو أن الخلاء قبل عالمنا هذا كان واقعًا ووقوع شيء في وقت من الأوقات دليل على إمكانه الذاتي في جميع الأوقات فإن ثبوت الإمكان للممكن واجب فالممكن في وقت ممكن في وقت آخر كما حققه شارح حكمة العين، ووجه الدلالة على أن الماء أول حادث بعد العرش أن كل جسم بسيط فله مكان طبيعي وأن المكان من لوازم وجود الجسم فإن الفاعل إذا أوجد الجسم أوجده لا محالة في مكان كما صرحوا به، والمكان للخفيف من الأجسام هو الفوق، وللثقيل التحت على حسب الثقل والخفة وتحددهما إنما هو بالفلك الأعظم فوجود الماء في جوف العرش يتوقف على وجود مكانه المتوقف على وجود العرش فيتأخر عنه حدوثًا ولا يخفى ما في هذا الوجه من النظر، ولا أقل من أن يقال لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى العرش والماء معًا؟ على أنه قد جاء في بعض الآثار ما هو ظاهر في أن الماء كان مخلوقًا قبل العرش فقد أخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات وغيرهم عن أبي رزين العقيلي قال: «قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء» وقال بعض في بيان وجه ذلك: أنه لما كان معنى كون العرش على الماء أنه موضوع فوقه لا مماسه وأن خلق السموات والأرض ءنما كان بعدهما اقتضى ذلك أن العرش مخلوق قبل وأن الماء أول حادث بعده وهو من فحوى الخطاب، وقوله: لا أنه كان موضوعًا إلخ لأن سياقه لبيان قدرته تعالى يقتضيه وفيه ما فيه كما لا يخفى، وتعقب بعض فضلاء الروم ما ذكر أولًا بأن حاصله أن الشق الثاني من الشقين المذكورين في كلام العلامة الثاني مستلزم لأحد أمور تقرر في علم الحكمة بطلانها فيتعين الأول منهما، وهو الذي ذهب إليه العلامة الأول، وهو إنما يتم أن لو كانت المقدمات المذكورة في إبطال تلك الأمور يقينية وهو ممنوع فإن أكثرها مبني على أصول الفلاسفة، وقد بين القاضي نفسه بطلان أكثرها في الطوالع وهو إنما يراعي القواعد الحكمية إذا لم تكن مخالفة للقواعد الإسلامية على أن في كلام ذلك المنتصر خللًا من وجوه: الأول: أن قوله: يلزم إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي إلخ يقال في جوابه: أنه يجوز أن يخرج الماء عن حيزه الطبيعي وذلك غير محال وأن كان خروجه بنفسه بطريق السيلان عن حيزه الطبيعي محالًا، ويشهد لذلك أنهم ذكروا أن الماء لثقله الإضافي يقتضي أن يكون فوق الأرض والأرض لثقلها الحقيقي تقتضي أن تكون مغمورة بأسرها فيه بحيث يمكن أن يفرض في جوفها نقطة تكون الخطوط الخارجة منها إلى سطح الماء متساوية من جميع الجهات مع أن الأمر اليوم ليس كذلك لانكشاف ربع شمالي من الأرض، وانحسار الماء عنه إما بسبب قرب الشمس في الجنوب إلى الأرض عند كونها في الحضيض بقدر ثخن المتمم المحوى كما قيل أو لأمر آخر يعلمه الله تعالى، الثاني: أن ما ذكره من استحالة تخلخل الماء ممنوع عندهم أيضًا، وما يقال: إن القول بالتخلخل لا يتصور في البسائط الحقيقية للزوم تركيب ما فيه مدفوع.
فقد صرح في حكمة العين وشرحها بأن التخلخل الحقيقي وهو أن يزداد مقدار الجسم من غير أن يزاد عليه شيء من خارج ممكن، وحققه سيد المحققين في حواشيه بأن الجسم سواء كان مركبًا من الهيولى والصورة أو لم يكن يمكن التخلخل والتكاثف فيه لأن مقدار الجسم زائد عليه والجسم من حيث هو لا مقدار له في ذاته فنسبته إلى جميع المقادير على السواء فأمكن أن يتصف بأكبر مما هو متصف به أو أصغر، وأيضًا الجسم متصل واحد والمقدار زائد عليه والجسم البسيط جزؤه يساوي كله فإذا اتصف الكل بمقدار خاص فجزؤه إذا انفرد وجب أن يكون قابلًا للاتصاف بذلك المقدار والكل بالعكس ضرورة تساوي المتماثلات في الأحكام، وحينئذٍ يتحقق إمكان ذلك، والثالث: أن التوجيه بحمل الإمكان على الإكان الذاتي إلخ منظور فيه إذ لا يلزم من وقوع شيء في وقت من الأوقات إلا إمكان وجوده في ذلك الوقت وإن كان ذلك الإمكان مستمرًا واجبًا في جميع الأوقات، فقوله: إن ثبوت الإمكان للممكن واجب، فالممكن في وقت ممكن في كل وقت إن أراد به أن إمكانه أمر ثابت له في كل وقت على أن قوله في كل وقت ظرف للإمكان فهو مسلم لكن اللازم منه أن يكون ذلك الشيء متصفًا بالإمكان إمكانًا مستمرًا دائمًا غير مسبوق بعدم الاتصاف ولا سابق عليه ولا يلزم منه أن يكون وجوده في كل وقت ممكنًا لجواز أن يكون وجود الشيء في الجملة ممكنًا إمكانًا مستمرًا ولا يكون وجوده في كل وقت ممكنًا بل ممتنع؛ ولا يلزم من هذا أن يكون الشيء من قبيل الممتنعات دون الممكنات فإن إمكان الشيء ليس معناه جواز اتصافه بجميع أنحاء الوجود بل معناه جواز اتصافه بوجود ما في الجملة فيكفي في إمكان الشيء جواز اتصافه بالوجود الواقع في وقت، والممتنع هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه، وإن أراد أنه ممكن الوجود في كل وقت على أن يكون في كل وقت ظرفًا للوجود فهو ممنوع ولا يتفرع على كون ثبوت الإمكان للممكن واجبًا، فإنه قد حقق المحقق الدواني في بعض تصانيفه أن إمكان الممكن وإن كان مستمرًا في جميع الأزمنة لا يستلزم إمكان وجود ذلك الممكن في تلك الأزمنة، وعلى هذا اعتمد المتكلمون في الجواب عن استدلال الفلاسفة على قدم العالم بأنه ممكن الوجود في الأزل وإلا لزم الانقلاب وهو محال بالضرورة، وقدرة الباري تعالى أزلية بالاتفاق فلو كان العالم حادثًا لزم ترك الجود وهو إفاضة الوجود وما يتبعه من الكمالات على الممكنات مدة غير متناهية وهو محال على الجواد الحق الكريم وحاصل الجواب: أن قولكم العالم ممكن الوجود في الأزل إن أردتم به أنه يمكن له الوجود الأزلي على أن يكون في الأزل متعلقًا بالوجود فهو ممنوع لجواز أن يكون وجوده في الأزل ممتنعًا، وإن أردتم به أن إمكان وجوده في الجملة مستمر في الأزل على أن يكون الظرف متعلقًا بالإمكان فمسلم، ولا يلزم أن يكون وجود العالم في الأزل ممكنًا لجواز أن يكون وجوده في الأزل مستحيلًا مع أنه في الأزل متصف بإمكان وجوده فيما لا يزال، وهذا ما يقال إنّ أزلية الإمكان لا تستلزم إمكان الأزلية، وما قيل في إثبات الاستلزام إن إمكانه إذا كان مستمرًا في الأزل لم يكن هو في ذاته مانعًا من قبول الوجود في شيء من أجزاء الأزل فيكون عدم منعه منه أمرًا مستمرًا في جميع تلك الأجزاء، فإذا نظر إلى ذاته من حيث هو لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها بل جاز اتصافه به في كل منها بدلًا فقط بل معًا أيضًا، وجواز اتصافه في كل منها هو إمكان اتصافه بالوجود المستمر في جميع أجزاء الأزل بالنظر إلى ذاته فأزلية الإمكان مستلزمة لإمكان الأزلية صحيح إلى قوله: لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها فإنه إن أراد أن ذاته لا تمنع في شيء من أجزاء الأزل من الاتصاف بالوجود في الجملة بأن يكون قوله في شيء منها متعلقًا بعدم المنع فيكون معناه أنه لا يمنع في شيء من أجزاء الأزل من الوجود بعده فهو بعينه أزلية الإمكان ولا يلزم منه عدم منعه من الوجود الأزلي الذي هو إمكان الأزلية، وإن أراد به أن ذاته لا تمنع من الوجود في شيء من أجزاء الأزل بأن يكون الجار متعلقًا بالوجود فهو بعينه إمكان الأزلية، والنزاع إنما وقع فيه فهو مصادرة على المطلوب، وليت شعري كيف صدر هذا الكلام من قائله مع أنّ من الموجودات ما هو إني الوجود كبعض الحروف ومع التصريح بأن ماهية الزمان تقتضي لذاتها عدم اجتماع أجزائها وتقدم بعضها على بعض إذ يلزم منه إمكان وجود كل من تلك الأجزاء في الأزل نظرًا إلى ذاته، وتمام الكلام في ذلك يطلب من شرح المواقف وحواشيه.
وأورد على كون المراد بالخلاء الخلاء في عالمنا لأنه المتنازع فيه أنه صرح غير واحد بأن المتنازع فيه إنما هو الخلاء داخل العالم وحقيقته أن يكون الجسمان بحيث لا يتماسان وليس بينهما ما يماسهما بناءًا على كونه متقدرًا قطعًا، وأما الخلاء خارج العالم فمتفق عليه إذ لا تقدر هناك بحسب نفس الأمر، فالنزاع إنما هو في التسمية بالبعد، فالفلاسفة يقولون حقه أن لا يسمى بعدًا ولا خلاءًا، والمتكلمون يسمونه بعدًا موهومًا ولا شك أن عالم كون العرش على الماء من داخل العالم فالخلاء فيه داخل في المتنازع فيه، وقد نص عليه أيضًا بعض المتأخرين.
ومن الناس من اعترض على قوله: إنه لو كان موضوعًا على متن الماء للزم إلخ بأن الأمور التي يلزم أحدها ذلك التقدير وهي فاسدة أكثر مما ذكر وسود وجه القرطاس ببيان ذلك وهو مما لا يحتاج إليه بل ولا يعول عليه، وزعم البعض أن ما راعاه القاضي في هذا الفصل ليس شيء منه مخالفًا للقواعد الإسلامية، ووسوست له نفسه أن خروج الماء عن حيزه مما لا يجوز لأن الله سبحانه إن كان موجبًا بالذات فلا يتصور الإخراج منه سبحانه لأن نسبته إليه على السوية بحسب الأوقات فلا يمكن كونه قاصرًا في بعض دون بعض، وإن كان مختارًا يقال: إن ذلك الخروج ممتنع في نفسه وهو سبحانه لا يفعل الممتنع ولا تتعلق قدرته به، وكذا يقال في التخلخل والتكاثف، ويجوز أن يكون بالطبع وإلا لكانا دائمين لأن مقتضى الذات لا يتخلف عنه، وممن ذهب إلى امتناعهما الأصفهاني في شرح حكمة المطالع ثم تكلم منتصرًا لنفسه وللقاضي بما لا يسمن ولا يغني، وقال ابن صدر الدين بعد نقل كلام العلامتين: قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام أن ليس لمجموع كرات العناصر بالنسبة إلى الفلك الأعظم الذي هو المراد بالعرش قدر محسوس فلا يتصور كونه موضوعًا على متن كرة الماء فإن ذلك إنما يكون إذا كان عظم كرة الماء بحيث يملأ جوف العرش مماسًا محدّ به مقعره وإلا لم يكن موضوعًا على متنه الذي هو عبارة عن السطح المحدب بل إما أن لا يتماسا أصلًا أو يتماسا بنقطة على ما يشهد به التخيل الصحيح، وكيف يتصور كونه مالئًا له وهو الآن لم يمتلئ إلا بالسموات والأرض والكرسي والعناصر بجملتها، وليس لك أن تقول: لعل الماء في ابتداء الخلقة قد كان على هذا المقدار الصغير الذي الآن عليه فتخلخل إلى حيث ملأ جوفه لامتناع الخلاء، فلما خلق سائر الأجرام العلوية والسفلية عاد بطبعه إلى ما تراه لأنا نقول: التخلخل عبارة عن ازدياد مقدار الجسم من غير أن ينضم إليه شيء فيستدعي حركة أينية وهي تستدعي وجود فضاء خال عن الشاغل وهو المراد بالخلاء، وكذا ليس لك أن تقول: فليكن في ابتداء الخلقة عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش وتكاثف بعد خلق سائر الأجرام إلى هذا المقدار الصغير لأنا نقول أيضًا: التكاثف الذي هو عبارة عن انتقاص مقدار الجسم من غير أن ينقص منه شيء سببه على ما تقرر عندهم أمران: أحدهما: التخلخل السابق العارض له بما يوجبه فإذا زال ذلك العارض عاد بطبعه إلى مقداره الأول كما في المد والجزر، وفي الصورة المذكورة لا يتصور هذا لأن المفروض أنه خلق ابتداءًا عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش فكيف يتصور أن يتخلخل بعارض حتى يعود عند زواله إلى مقداره الطبيعي الصغير وهو ظاهر؛ وثانيهما: الانجماد باستيلاء البرودة الشديدة، وهذا أيضًا لا يتصور هاهنا أما أولًا فلأن الماء المنعقد جمدًا وإن كان أصغر مقدارًا منه غير منعقد لكنه لا إلى مرتبة لا يكون له قدر محسوس بالنسبة إلى مقداره الأول بل يقرب منه في الحس كما يشاهد في المياه المنعقدة ولا قدر لكرة الماء الموجود الآن بالنسبة إلى المالئ جوف العرش وهذا مثل أن ينعقد البحر فيصير كالعدسة ولا يلتزمه عاقل.
وأما ثانيًا فلأن كرة الماء على ما يشاهد غير متجمدة بل باقية على طبعها من الذوبان، فإن قلت: بقي على تقدير كون الماء في ابتداء الخلقة عظيم المقدار مالئًا لجوف العرش احتمال آخر وهو أن يفرز بعض أجزاء هذه الكرة العظيمة ويجعل مادة لسائر الأجرام السماوية والأرضية كما في سورة انقلاب بعض العناصر إلى بعض.
ويؤيده ما ورد في الأثر من أن العرش كان قبل خلق السموات والأرض على الماء، ثم أنه تعالى أحدث في الماء اضطرابًا فأزبد فارتفع منه دخان وبقي الزبد على وجه الماء فخلق فيه اليبوسة فصار أرضًا، وخلق من الدخان السموات، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] قلنا: إن هذا الاحتمال غير واقع أما على تقدير تركب الجسم من الهيولى والصورة على ما ذهب إليه المشاؤون من الفلاسفة فلأن هيولى العناصر وإن كانت واحدة بالشخص قابلة لأن يتوارد عليها صور العناصر بواسطة استعدادات متعاقبة تعرض إلا أن هيولى كل فلك مخالفة لهيولى فلك آخر لا تقبل إلا الصورة التي حصلت فيها، وأما على تقدير تركبه من الجواهر الفردة على ما هو مذهب أهل الحق فلأنها متخالفة الحقائق عند محققي المتأخرين على ما صرحوا به، فما يتركب منه الماء لا يجوز أن يتركب منه سائر الأجسام، وأما ما ورد في الأثر وأشارت إليه الآية من جعل الدخان المرتفع من الماء مادة للسموات فمصروف عن ظاهره إذ الدخان أجزاء نارية خالطتها أجزاء صغار أرضية تلطفت بالحرارة ولا تمايز بينهما في الحس لغاية الصغر، فقبل خلق السموات والأرض بما فيهما لم تكن نار وأرض، فمن أين يتولد الدخان؟ وكذا إن أريد بالدخان البخار لأنه أجزاء هوائية مازجتها أجزاء صغار مائية تلطفت بالحرارة بحيث لا تمايز بينهما في الحس أيضًا فحيث لا هواء لا بخار، ولهذا قال القاضي في تفسير: {وَهِىَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] أمر ظلماني، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها، ومن هنا ظهر أن ما في الأثر لا يؤيد كون العرش موضوعًا على متن الماء ملتصقًا به بل يؤيد أن لا يكون بينهما حائل إذ ارتفاع الدخان والبخار يستدعي وجود فضاء تتحرك فيه تلك الأجزاء، وفي صورة الالتصاق لا يمكن ذلك كما لا يخفى على من له تخيل سليم.
ويعلم مما ذكر أنه يجب تفسير الآية بما فسرها به القاضي ولا مجال للقول بالوضع على المتن فيتم الاستدلال، وأما قول أبي السعود: إنه لو دل إلخ ففيه أن الوقوع أدل دليل على إمكان الشيء، ومثل هذا الاستدلال شائع ذائع في كلامهم، وأما أن المراد بالإمكان الإمكان الوقوعي فكلا إذ النزاع في الإمكان لا الوقوع، وما ينقل عن الأصمعي من أن هذا كقولهم السماء على الأرض مع أن أحدهما ليس ملتصقًا بالآخر، وحينئذٍ يكون معنى قول القاضي: لم يكن حائل بينهما أنه لم يكن حائل محسوس بينهما وكان حائل غير محسوس وهو الهواء ليس بشيء ولا يصلح ما ذكر معنى لذلك إذ الفوقية كانت قبل خلق جميع أجرام هذا العالم فعلى تقدير عدم الالتصاق لا يتصور حائل أصلًا، ثم بين وجه دلالة الآية على أن الماء أول حادث بعد العرش بنحو ما قدمنا ذكره انتهى المراد منه.
وأقول: إن هذا الاحتمال الذي أجاب عنه بزعمه قوي جدًا، وما ذكره عن محققي المتأخرين صرح الجمهور بخلافه، وقد حقق ذلك في موضعه فلا مانع من أن يخلق الله تعالى من الماء الأجرام السماوية والأرضية بل وكل شيء، وما ذكره في حيز تعليل صرف الأثر عن ظاهره ليس بشيء أصلًا إذ يجوز أن يحيل سبحانه بعض ذلك الماء المالئ أجزاء نارية وبعضه أجزاء أرضية ويجعل المجموع دخانًا، وكذا يجوز أن يحيل البعض أجزاء هوائية فتمازج أجزاء صغارًا مائية متلطفة بحرارة يخلقها حيث شاء فيتكون البخار، وفي الأثر عن وهب بن منبه أنه جل شأنه قبض قبضة من الماء ثم فتح القبضة فارتفع الدخان ثم قضاهن سبع سموات في يومين ويؤول حديث الارتفاع بما لا يستدعي الفضاء نحو أن يكون المعنى فوجد بعضه دخانًا مرتفعًا، وقد يقال: يجوز أن يكون الماء في ابتداء الخلقة مالئًا للعرش ثم أنه سبحانه لما أراد أن يخلق ما يخلق أفنى منه ما أراد وخلق بلا فاصل يتحقق معه الخلاء بدله ما خلق لا من شيء، والقول باستحالة هذا الخلق مفض إلى فساد عظيم وخطب جسيم لا يكاد يستسهله أحد من المسلمين وهو ظاهر، وما ذكره في دفع قول شيخ الإسلام: أنه لو دل لدل إلخ غير ظاهر فيه، قيل: إذ الاعتراض بطريق أنه لو دل لدل على وجود الخلاء لا على إمكانه الصرف لأن الشيء إذا كان موجودًا كان وجوده ضروريًا لا ممكنًا صرفًا على ما بين في محله، وينادي على أن الاعتراض كذلك تقييد الإمكان في عبارته بقيد فقط مع القول بالدلالة على الوجود.